معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)
وهنا مسألة أخرى، وهي أن يقال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرق كلها في النار إلا واحدة، فما معنى ذلك؟ والجواب: إن ذلك لا يعني أن كل من خرج عن أهل السنة والجماعة، أو عن منهجهم، فهو خالد مخلد في النار كافر؛ لأن آيات الوعيد وأحاديث الوعيد يجب أن تفهم كما فهمها أهل السنة والجماعة .
فهذا الحديث من أحاديث الوعيد، التي نتبع فيها مذهب أهل السنة والجماعة في فهم أحاديث وآيات الوعيد. فقوله تعالى في آكل مال اليتيم: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا))[النساء:10] لا نستطيع أن نجزم بأن كل من أكل مال اليتيم سيدخل النار.
وهكذا قول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا))[الفرقان:68-69].
أما الشرك فمعلوم خلود صاحبه في النار، ولكن الزاني والقاتل هل لابد من دخولهما النار، فيعذبان ويخلدان فيها؟!
هنا أمور يجب أن نعرفها ونعلمها، وهي: أن آيات وأحاديث الوعيد تذكر العقوبة المترتبة على الذنب، وهذه مسألة، وأما إنزالها على الفاعل، فهي مسألة أخرى؛ بمعنى: أن من فعل كذا فهذا جزاؤه، لكن لابد لذلك من شروط يجب أن تتحقق، وموانع يجب أن تنتفي، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، ولهذا تنصب الموازين يوم القيامة، فقد يأتي رجل وهو آكل مال يتيم، ولكنه قد قاتل في سبيل الله حتى قتل، فرجحت كفة الجهاد على كفة أكل مال اليتيم مثلاً؛ إذاً: فلم يتحقق الوعيد؛ لوجود مانع منه، ومثل من يكون مؤدياً للصلاة وشارباً للخمر؛ إن رجحت الصلاة أو الصدقة أو الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما فعل من شرب خمر أو سرقة أو غيبة أو نميمة؛ فعندها يتخلف في حقه الوعيد الذي نص الله عليه في حق الزاني أو شارب الخمر أو صاحب الغيبة والنميمة، وهكذا بقية الذنوب عدا الشرك.
وعليه فقوله صلى الله عليه وسلم: {كلها في النار إلا واحدة} معناه: أن كلها تستحق النار إلا واحدة، لكن ليس معناه أن كل أفرادها يدخلون النار، فالاستحقاق شيء، والإيقاع للعقوبة شيء آخر، فقد يوجد في بعض هذه الفرق التي لا يخرج صاحبها من الملة جهاد وعلم وعبادة وإخلاص، ومعه بدعته، فإذا وضعت الموازين رجح ذلك بتلك، وقد يوجد معها نفاق وكفر، فيكون فيه أعظم مما يظهر للناس، وهو مجرد البدعة، فيكون كافراً مرتداً.. وهكذا.
إذاً: غاية هذا الكلام: أن هذه الفرق مستحقة لدخول النار، ثم قد يتخلف الوعيد وقد يتحقق، بحسب ما هو معلوم في عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب الكبائر، فيجب أن نعاملهم معاملة أصحاب الكبائر.
والصحيح في عدد الفرق الهالكة أنها اثنتان وسبعون فرقة؛ لأن أهل السنة خارجة عن هذه الفرق، وهذه الفرق الهالكة ليست خارجة عن الإسلام، وإذا أخرجت فرقة ما عن الإسلام، لم تعد من الثلاث والسبعين فرقة؛ كـالباطنية مثلاً، فإنها لا تعد من الثلاث والسبعين؛ لأنها خرجت عن الملة، ورجح شيخ الإسلام رحمه الله في الإيمان خروج الجهمية، واستدل بأن عبد الله بن المبارك، ووكيعاً، وسفيان بن عيينة، وغيرهم من جلة العلماء، أخرجوا الجهمية من فرق هذه الأمة، وقد نقل ذلك البخاري رحمه الله في كتابه خلق أفعال العباد، وكذلك نقله الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه السنة، وغيرهم من العلماء.